إبراهيم الكوني
(إلى العزيز بلال أغ الشريف، فارس الهوية في زمن اغتراب الفروسيّة)
“الدولة المحمولة” مفهوم عبقري، من إنتاج الهجرة. وهي ظاهرة مغتربة من واقع عالمنا اليوم، بسبب اغترابنا عن الهجرة، في بُعدها الكلاسيكي كطريقة وجود، في واقعٍ، هو أُحجية أحاجٍ، إذا أخضعناه لمنطق أمم الرحيل، في علاقتها بالكينونة، بتلك الروح الوجدانية، التي لن نخطيء إذا سمحنا لأنفسنا بأن ننعتها بـ”الغنائية”، لأن هذه الروح الغنائية هي الفردوس المفقود في علاقة إنسان عالمنا بالوجود، بسبب طغيان الروح النفعيّة، التي لم تتوقّف عند إدمان باطل الأباطيل إفيوناً، بتشجيع من هذه الروح النفعيّة، التي لم تتوقف عند إدمان باطل الأباطيل إفيوناً، بتشجيع من هذه الروح النفعية، ولكنها أبت إلّا أن تكفر بما كان ذخيرة وجدان في قلب المخلوق البشري، وهو الميثولوجيا، لتستبدل هذا النعيم بصفقة آثمة مع ملك الظلمات، لتعتنق، في حمّى هوسها باحتكار الحقيقة، الأيديولوجيا ديناً، بديلاً لدين عرّابة الأشعار، في ناموس الأجيال، وهي: الميثولوجيا!
فالمفهوم هنا قد يبدو توجيهاً لطعنة في حقّ عالم الاستقرار، المعتمد في أبجدية أدبيّاتنا بوصفه عمراناً، وأن نتّفق فنطلق عليه إسم “العمران”، فهذا اعتراف بحقيقته في سلّم التطوّر، ليستعير منزلة الإعمار، الذي يفرز مفهوماً آخر، هو: المعمار، المعمار بوصفه الوصيّ على قيام مجدٍ آخر في سلّم العمارة، وهو الحضارة، كمزيّة نغتنمها من جود الإنسان الحضريّ، الذي لم يطلق على نفسه هذا اللقب المهيب إلّا من باب إسترضاء كبرياء تفوّقه على قرينه الراحل، باعتبار الحضور، الذي يستعير منه إسمه، هو استحقاقٌ منيع، فيما إذا قورن بعدمية وجود قرينه في الوجود، أو بالأصحّ، قرينه في وجود اللاوجود، لأن المهاجر في الدنيا مجرد ضيف، أو بالأصحّ، طيف، ليس من حقّه أن يدّعي لنفسه حقّ الحضور، مادام يعتنق دين الفرار، فلا تعترف الأرض بهويّته كحرف يحتلّ لنفسه موقعاً في واقع اليابسة، فتستنزل في حقّه الحرمان من الوثيقة الثبوتيّة، قصاصاً له على استهتاره بمبدأ المباديء في منظومة ناموسها وهو: الحضور؛ ليبقى معلّقاً في فضاءٍ بين السماء والأرض، كالطير تماماً، لأن خيار الحرية هو أن تقبل بقدر الطريد أبداً، لتنتحل ماهيّة: الشبح، أو الضيف، أو الطيف، أو أي نعتٍ من هذا القبيل، المهمّ في سيرته وجود ختم الطبيعة الوقتية، كعلامة قابيل، التي وسَمه بها الربّ: «لكي لا يقتله كل مَن وجده» كما في سفر التكوين، برغم عدائه لملّة قابيل، لأنه السليل الشرعي لسلالة الشهيد هابيل؛ المفتون بالشعر، بالغناء، بالمعزوفة الوجدانية، الذي لا يملك، في مسلكه، إلّا أن يسمو، في شطحة الشجن، لكي يحقق، في الروح، استعادة فردوسه الضائع. فهل حضور الإنسان الحضري، في فسحة الحضيض، هو شهادة ضمنيّة للتأكيد على هويّته كعَصَب لما نسمّيه” حضارة؟
قد يصدق هذا في حال آمنّا بالحضارة كصنيع عمران، أو معمار، أو أيّ إنجازٍ حميم الصلة بالحرف، الذي لم يخطيء القديس بولس، عندما نعته بـ”المميت”. فكيف نستطيع أن نعوّل على فواكه الحرف، إذا أيقنّا بحقيقة الحرف كحامل جرثوم المنيّة؟
الواقع أن فواكه الحرف هنا ليست الجناية الوحيدة، المقترفة في حقّ إنسانٍ لا يتردّد في أن يتباهى بهويّة الحضور في واقعٍ هو، بكل المقاييس، سجن، لا يكتفي بأن يحوّله سجيناً خلف جدران هذا السجن، الذي يحسن به الظنّ عندما يسمّيه عمراناً، لأن هويّة السجين تهون، إذا ما قورنت بهوية القنّ، الذي ينتج عن القبول بقدر الإختباء الجبان وراء سقوف الجدران. لماذا؟ لأن هذا الخنوع، المسمّى خطأً بـ”الحضور”، هو ترويضٌ للنفس على ترفٍ، لن يعدم أن يقود، في النهاية، للإعتراف بالعبودية قدراً، مادام شرط هذا الترف المزعوم هو التضحية بالحرية، وتعاطي الخضوع لجهازٍ، لا يرتضي مهمّة إدارة شئون السجناء، ما لم ينتحل فيها دور الدولة، الدولة التي لا تلبث أن تستقيم في سلطة، والسلطة تستقيم في طغيان!
فهذا البعبع البشع هو السليل الشرعي، الذي أنجبه واقع العمران، الذي لا نستحي أن نستنزل فيه لقب “الحضارة”، ولم يكن لينتزع الفرصة يوماً، لكي يحقّق لنفسه وجوداً في رحاب الصحراء، وإلّا سخرت منه الأقدار، وهي تراه يطارد أشباحاً، أو أطيافاً، في سراب الفلوات، مستجدياً حضورهم في حضرة بريّةٍ هي، في يقين أهل الباطل، خيتعور!
فالدولة، التي ينتدبها إنسان العمران، في واقعٍ يسمّيه حضوراً، هي مجرّد حيلة لخلق مناخ يتعايش فيه الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، بحيث لا يتحوّل أي طرف ليكون ذئباً في العلاقة مع أي طرف آخر، ليمارس نشاطه بأمان من أي عدوان، فلا يجد هذا الجهاز، المستدعى خصّيصاً ليتولّى أمر القسمة، بين أناسٍ، لا نستطيع أن نطلق في حقّهم إسم المواطنين، لأنهم، بمنطق واقع الدولة، مجرد مستوطنين، لأن المواطن صفة مكتسبة من الإنتماء إلى وطن، والوطن مفهومٌ آخر يختلف تماماً عن مفهوم الدولة، بوصفه منظومة قيم: قيم أخلاقيّة ووجودية، لم تكن الدولة معنيّة بها إلّا في أبعادها المثالية، البعيدة المنال، لأنها لم توجد لتحقق عدالة، ولكن رسالتها أن تنتج، في كنفها، أفواج العبيد، الذين ليس لهم إلّا أن يقبلوا بالطغاة أوصياء.
فهذا الإنسان نموذج مكبّل بأغلال عصيّة، رأس الحربة فيها الملكيّة، التي سرقته من فردوسه زمن الهجرة في أرض الله الشاسعة، لتوقع به أسيراً في أشبار أرضٍ، إستباح بها حرمة أمّه الأرض، لينتزع منها قوته غصباً، بدل أن يتلقّى منها القوت طوعاً، على طريقة رهينة المهاجر. ثمّ تَنقّل في أطوار التدجين كثيراً قبل أن يقع ضحيّة الحاجة لوجود القوانين الإصطناعيّة بالطبع، لا الطبيعية، كما حال قرينه المرتحل، فلا تجلب الخلاص، لسببٍ وجيه ذي صلة بالواقع الاجتماعي المعقد المكبّل بشبكة علاقات تعجز القوانين عن استيعاب حمولتها، ممّا يستوجب انتهاكها، ليبطل في الواقع مفعولها، فلا تجدي التدابير لمداواة نكباتها، فلا يمتلك السواد الواقع تحت رحمة الكيان، المدعو دولةً، القابع بين جدران حبوسها، سوى الإستجارة بما ورثه عن أسلافه من أعراف، في مراحل تاريخ الترحال المنسيّ، علّه يحقق له النصيب الأدنى من العدالة الضائعة، محكّماً في هذه الورطة المبدأ الوحيد، القادر على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ألا وهو: الضمير!
فالتجربة برهنت أن عجز القوانين الوضعيّة، مقابل اغتراب القوانين الطبيعية، هو ما يدفع أهل الواقع العمراني لأن يستيقظوا من غيبوبتهم، ولكن جناب الدولة يخذلهم، بسبب العداء السافر والعميق بين عقليّة الدولة، كمنظومة قمع، وبين الضمير كقاضي قضاة معطّل الصلاحيّة، بفعل أحكام القوانين الوضعيّة، التي لم تكن لتعترف بوضعيّتها في اللغة، لو لم تدرك أن “الوضعيّة” صفة مستعارة من الوضع، القرين، في الحرف، بل وفي المفهوم، لـ”الوضاعة”، ليأتي دور التلقين، لصياغة نسيج الأيديولوجيا، كي تتحنّط المفاهيم، لتبدأ رحلة الإغتراب، في حين تسبح الدولة، في مفهومها المحمول، في فلكٍ آخر أبعد منالاً يلعب فيه المهاجر دور البطولة.
فهو نموذج مدجّج بالروح الميثولوجية الملهمة، التي تتعاطى قيم الصحراء البكر، كالفروسيّة والشعر والحبّ وكل ما متّ بصلة لقدس أقداس هو: الجمال! وعلاقة هذا النموذج مع صحرائه رومانسيّة، وليست نفعيّة كما في العالم الحضري. وأن تكون رومانسيّة يعني أنها وجدانية.
وأن تكون وجدانية يعني أنها حميميّة. وأن تكون حميميّة يعني أن قيمةً كالوطن فيها تلعب دور الحرز، لأن مفهوم الوطن هنا هو منظومة القيم الأخلاقيّة والوجودية المتوارثة عن السلف، المبثوثة في نسيج المروية الميثولوجية في صيغة وصايا مقدّسة، تستعير قرون استشعار في مسيرة القبيلة الراحلة، التي تتنكّب دولتها، لتمارس، بهذا الوزر، نشاطها الهجري بحبٍّ، يهوّن على المهاجر قسوة البيئة، وقسوة أخرى داخل القسوة البيئية، وهي قسوة العزلة.
عزلة يختلي فيها المهاجر مع نفسه، ليستجوب، في نفسه، علاقته بدولته، بصفته الوصيّ على هذه المعزوفة، والمخوّل وحده بتدبير إدارتها، وليس له أن يستجدي عوناً من أحد خارج نطاق مملكتها في حجمها المصغّر، أي: عائلته، وعليه أن يحسن تسييرها بحكمة إذا شاء أن ينجو، لأن أصغر خطأ كفيل بأن يكلّفه وجوده برمّته. لذا عليه أن يعي أنه في قضاء حوائج القوت، هو، لا سواه، ما يسمّى في دنيا العمران، وزير الشئون الاقتصادية.
وفي شأن استخدام الأعشاب البرية كعقاقيرٍ لعلاج الأمراض، هو وزير الصحة، وفي الحرص على سلامة أفراد العائلة من الأعادي هو وزير الدفاع، وفي تنظيم العلاقة مع الأفراد أو عائلات القبائل الأخرى، التي يتقاطع معها أثناء الهجرة، هو وزير الخارجية، وفي ضبط الأفراد داخل المحيط العائلي، بفنون الترويض، هو وزير الداخلية والشئون الاجتماعية، وفي سرد بطولات الأسلاف، وأساطير الأبطال، والتحريض على مكارم الأخلاق، في الأمسيات التي يستوي فيها القمر بدراً، ويحين ميعاد الاسترخاء ليحلو السهر، فهو وزير الثقافة، وهو أيضاً مفتي الديار الصحراوية ما أن يعبس الوقت، ليكشّر عن أنيابه، ليلقّن الدرس، فلا مفرّ من الإحتكام إلى الناموس، الضائع “آنهي” لاستدرار العبر، لأن الإيمان دوماً هو ملاذٌ أخير. فهل في الوجود حرية يمكن أن تقارن بحرية الإنسان، الذي استغنى عن العالم، وحمل في قلبه كل تلك الذخائر الوجودية، التي وصفها حكيم الزمان “ستيلبون”، بـ”الخيرات”، عندما واجه طاغية الزمان الإغريقي، الذي حرق مدينته، وشرّد أسرته، انتقاماً منه، فبادره قائلاً: “أنت لم تفعل شيئاً، لأن كل خيراتي معي!”؟
نموذجنا هنا أيضاً استطاع أن يستعين على قضاء كل حوائجه الدنيوية بالإستغناء عن دنيانا برمّتها، بما في ذلك نظامنا، وترفنا، وهباتنا، ودولتنا، وكل ما متّ بصلة لما نحسبه معبوداتنا، التي نتوهّم أنها قادرة أن تحيينا، إذا شاءت أن تُحيي، وأن تُميتنا، إذا شاءت أن تُميت، لنكتشف أن كل هذا ينقلب باطلاً في حال واجهناه بروح المهاجر، الذي لا يخسر في صفقة الهجرة، سوى أوزاره، لأنه منذورٌ لقدر القربان، وإلّا لما كان خليفة الشهيد الخالد هابيل، ليقبل دور الضحية خياراً، ليقينه بأنه لم ينزل ساحة هذا المنفى، المدعو في لغتنا وجوداً، كي يهنأ بصنوف السعادة، ولكنه أقبل على صحراء العالم ليمارس أداء الواجب، لأن الحضور هو فلسفة ومسئولية أخلاقية، ليس نحو أخينا الإنسان فقط، ولكن نحو كل الكائنات التي تمتلك حقوقاً في الوجود، مادامت حقّقت ما نسمّيه حضوراً، على خريطة هذا الوجود، لنعي أننا لسنا أوصياء على الكائنات، ولكننا جزء منها، كما هي جزءٌ منّا، ونحن مسئولون أخلاقياً على خلاصها، بالقدر نفسه الذي نحرص فيه على خلاصنا، وسعادتنا لن تتحقق بدون الوعي بهذه المسئولية، والإيمان بها كسَدادٍ لدَين.
الإحساس بماهية الإنسان، المكبّل بدَيْن، هاجس إنسان الصحراء، الذي بصم في روحه وَسْمَاً حوّل مفهوم الدَّين (في صيغة الواجب)، إلى مفهوم الإيمان بالدِّين (في صيغة التقوى)، لذا فهو نموذج دَيِّن فطريّاً.
ومن الطبيعي أن يستعير دين الفطرة المناخ الغيبي، القادر على استدراج الدِّين في بُعده الحرفيّ، وإلّا لما كانت الصحراء فردوس الوحي، الذي ترعرعت في فضائه كل ديانات التوحيد، التي نفخت في سليل آدم روح الحقيقة، التي قتلتها فيه روح شريرة هي: الدولة، ليبقى هذا النموذج المهاجر، في صحراء هذا العالم، وحده عرّاب هذه الحقيقة، لأنه وحده لم يبخل بالروح عندما اختار الحرية وطناً. ليبقى تعويذة عالمنا الشقيّ، الذي يتوهّم أنه يستطيع أن يحرم هذا البطل من الوجود، عندما يحرمه من هيكلٍ بائسٍ هو الدولة، إذا كانت الأقدار هي التي اصطفته، لكي يكون وحده الوصيّ على الخلود. الخلود الذي يستحيل عنواناً لوطن، إسماً لوطن، بعد أن توهّمه أهل الباطل طريداً لوطن، لأنهم يجهلون أنه، بخيار الفرار، بخيار الحرية، استوعب ثروة الوطن، لتتحوّل بحمّى الحنين، حِمماً، تلفّق فيه القيمة المضمرة. وكونها مضمرة، هو ما يحيلها فتنةً مبهرةً، جديرة بأن تستعير، في معجمنا، إسماً مهيباً هو: الضمير!
ولهذا السبب لا تدري قوى الشرّ، التي تكأكأت في ظلمة إحدى الليالي، لتبتلع ما حسبته معقل القوم في «كيدال»، إنما استصدرت حكم إعدامٍ في حقّ نفسها، لا في حق المارد، الذي حرّرته من قمقم الإستقرار، فخسرت الرهان، في حين توهّمت أنها كسبت الرهان، لأن من أين لمريد حبوس العمران، أن يؤتى علماً بحقيقة سليل البريّة الصحراوية، الذي ينهزم بالمقام في المكان، ولكنه لا يلبث أن يستعيد روح بسالته الأسطورية، ما أن يتحرّر من أسر الإغواء، الذي ينقلب كابوساً يُميت فيه الروح، فلا يصحو من غيبوبة عبوديّته إلّا بترياق التدخّل الجراحي، الدمويّ، الكفيل بانتزاعه من براثن فردوسه المزعوم، ليسترجع، في نفسه، طلسماً أضاعه بفضل التّرف، وليس له إلّا أن يحقق في نفسه معجزة البعث، لأن التجربة برهنت أن بطولة تحرير الوطن من الأسر، هي رسالة الطلقاء، الذين يسرحون في الصحراء، وليست من نصيب السجناء، الذين يحشرون أنفسهم وراء قضبان سجونٍ، يسمّونها حصون عمران!
من أين لمعامل التآمر أن تعلم طبيعة واقع الصحراء، الذي اعتاد أبناء ملّته أن يتّخذوا فيه الحصون من طينة الحرية، لا من طينة أوحال الأحاضيض، كما في واقع الحضر، فلا يدروا مغبّة استفزاز المارد، عندما يعيدون خصماً مميتاً، هو الحوت التنّين إلى خضمّ اليمّ، عندما يحطّمون جدران الحبوس بأيديهم، ليحقق المارد الخلاص من الأسر، لينسج من مَسد قيوده، الأحبولة، التي سيكتم بها أنفاس الاعادي؟